تثار العديد من النقاشات مؤخرا حول فرصة انتقال الفن الفوتغرافي للحداثة وتخلصه من الصبغة التقليدية التي أسهمت بالقضاء على متعة الأعمال الملتقطة نتيجة مسببات عديدة ، منها عدوى التكرار الافتراضي والتصادفي لبعض الأعمال الفنية ، وتقليد البعض للأفكار قلبا وقالبا ، وعدم وجود الوقت الكافي لتنفيذ بعض الأعمال والعمل بمشروع فني يستحق الانتظار من أجل الإنتهاء منه ، في زمن سيطرت عليه مواقع التواصل الاجتماعي و اضاعت قيمة التقييم الفني الحقيقي للصورة الفوتغرافية ما بين الإعجابات الحقيقة والوهمية والتحيز (القبلي) للفنان الذي نحبه أو لا نحبه مابين الإشادة به أو تجاهله عمدا حتى وإن كانت أعماله تستحق الإشادة ، مما أوجد الحاجة للتطوير في تلك الأعمال لنقلها لعصر الحداثة حتى تكون الفصل والفيصل الجديد بالمسيرة الفوتغرافية .
ولا يختلف التفسير كثيرا في فهم معنى الفن الحديث فهو باختصار يقصد به التمرد على الفن القديم والبحث عن التجديد ، وهذا التجديد هو الهدف المنشود لدى بعض المصورين مؤخراً ، ولكن من سيجرؤ على القفز ببحر الحداثة متحديا اعاصير الفكر الكلاسيكي لكسر النمطية المتبعة بالأعمال التي يقدمها غالبية المصورين !؟ بالفعل هي أشبه بالمهمة المستحيلة أو الإنتحارية التي قد تفقد محبها رصيده الفني في ظل جهل الجمهور بجوهر الحداثة ، ولكن تظل هناك محاولات بسيطة يستطيع البعض من خلالها الاحتيال قليلا لصبغ أعمالهم بالحداثة ، ما بين اضفاء نوع من التعديل الرقمي على الأعمال ، ومابين توظيف بعض العناصر المحيطة لكسر الروتين المتبع في تنفيذ الأعمال الفنية ، أو الابحار بعيدا مع مدرسة التجريد البصري والفن المفاهيمي .
وفي وسط البحث عن الحداثة تظل الصورة الكلاسيكية حاضرة وبقوة وتحديدا الواقعية منها ، بعد عودتها لتصدر المشهد الفوتغرافي خصوصا بحضورها المميز والملفت للنظر في أجواء المسابقات الدولية ، بعد تحررها وتعافيها من الجمود الفني المتأثر بتطعيم الحداثة بها تارة ، وتارة أخرى بتجريدها من قيمتها الفنية والإكتفاء بتسميتها بتوثيقية ، التي أفقدتها أهميتها في ظل إفلاس العقول والنوابغ لدينا بترجمة مفهوم التوثيق الصحيح ، والذي يفسر على إبقاء جوهر وأصل الموضوع به على طبيعته و سجيته من دون العبث به ، ويفهم موضوعه بكل بساطة بدون الحاجة لسرد العديد من التفاصيل النحوية، التي قد تكتب وتؤلف بمحاولة مستميتة من قبل المصور نفسه بغية إنعاش ذاك العمل بأي طريقة كانت ، حتى وإن كانت تلك القصة منافية تماما لوقت التقاط ذاك العمل وجوهر أحداثه .
ولقد شهدت مؤخرا مسابقة سوني سيطرة قوية للأعمال الواقعية ، والتي تم إختيارها بعناية متأنية ومتوازنة ، حيث أتت معظم الأعمال الفائزة مخلوطة بصبغتين أساسيتان امتزجت بمفهوم المدرسة الحديثة والتوثيقية بإخراج متقن ، جعل من الأعمال الفائزة والمختارة بسيطة الفهم وسريعة القراءة لعين المشاهد ، والتي ذكرتنا بتلك الأعمال التي اعتدنا أن نشاهدها لأساتذة الفن الكلاسيكي الجميل أمثال هنري كارتير ، وفان هو ، وأرنست هاس ، وجوزيف كوديلكا ، و روبرت كابا ، وفي مشهد غير مألوف لمسابقة سوني في هذه النسخة ، أعلنت وبشكل واضح انتصار الصور الواقعية وبشكل كبير ، حتى تلك التي أتت بمحاور الطبيعة لم تكن بعيدة جدا عن محيطها الواقعي ، فتم الإكتفاء بقبول اللقطات كما هي عليه ، وكأن لجنة التحكيم ارتأت في هذه النسخة أن تكرم المدرسة الواقعية لأبعد الحدود .
وبلا شك الكثير من محبي الصورة الواقعية سعدوا جدا بعودة الروح الجميلة لجوهر الصورة الفوتوغرافية الحقيقية ، خصوصا لأولئك الذين يفضلوا أن يروا أعمالهم الفنية بواقعيتها الطبيعية بدون تأثرها ببرامج التعديل والمعالجة ، بل يرونها بأنها يجب أن تكون المقياس الأصح لقياس كفاءة وخبرات المصور الحقيقي في نجاحه بتوظيف خبرته وثقافته وعينه الجميلة بالتقاط أعمال جميلة، حيث أن الكفة هنا ستتساوى مع الكل بدون استثناء ، وبشكل خاص مع أولئك الأشخاص الغير مجيدين للتعامل مع برامج التحرير والمعالجة . وقد أشاركهم فرحتهم كذلك ، ولكني كفنان محب للصورة الجميلة سأبقى حائرا بين المفاضلة في الميل لأية كفة ، فإذا كنت أبحث عن المهارة فسيكون خياري المدرسة الواقعية ، وإذا كنت أبحث عن الجمالية الفنية فبالتأكيد سأميل للمدرسة الحديثة ، تلك هي المعادلة الصعبة لي في تفضيل إختيار أي مدرسة !
بالختام تختلف النماذج والأساليب المتبعة في التصوير وطريقة الإلتقاط ، ولكنها تتفق جميعا عند نجاح المصور بالتفرد بالعمل الذي يقدمه أيا كان منشأ ذاك العمل واقعي كان أو حديث بجماليته وتميزه . والأهم هو الابتعاد عن خانة التقليد والإفلاس البصري والفكري سوية ، فذلك ما يجعل منا فنانين متميزين ولنا اسمنا وقيمتنا الفنية .
والعبرة الحقيقية لتقييم مستوى المصور الناجح برائي الشخصي ، هي بنجاحه بشكل متواصل بكسر النمطية التي يقدمها بأعماله ، ويجبر غيره على متابعته وتقليد ما يقدمه هو من أعمال فنية بشكل متواصل .
أطيب التحيات والتقدير …
عبدالله المشيفري